"اللغة توفر الحرية والقيد، والفهم وسوء الفهم معاً" نيلوفر حائري
يتحكم في استخدام اللغة وتقنينها ثالوث الأمة والدين والدولة. وفي مصر تدرس الباحثة الأمريكية نيلوفر حائري (ذات أصل إيراني) الوضع اللغوي العامي وعلاقته بالأبنية الاجتماعية والثقافية والسياسية خلال فترتين (1987-1988 و1995-1996) في كتابها"لغة مقدسة وناس عاديون: معضلات الثقافة والسياسة في مصر" بترجمة إلهام عيداروس ومراجعة مديحة دوس (المركز القومي للترجمة، 2011).
تركز فصول الكتاب حيال أربعة مواضيع: العلاقة بين اللغة والحداثة(المعاصرة) والتوجه نحو اللغة المحلية (العامية)، والنضال من أجل نفخ الحداثة في العربية الفصحى(لغة القرآن الكريم)، والغموض المستمر في العربية الفصحى المعاصرة، والأزمة في استقلال وتقعيد اللغة العامية لغة تحدث وكتابة. وحين تضع الجهد الأساسي في العلاقة ما بين اللغة العربية الفصحى إزاء اللهجة المصرية العامية فهي غير عابئة بتراكم التنافرات والتناقضات التاريخية، والأبنية الاجتماعية والثقافية، والأنظمة السياسية والدينية.
إذ تنطلق من "الحيرة البحثية" حيال الدرس اللغوي المقارن الذي تستفتح به الكتاب حين تقارن بين لغة "الكاثاريفوسا"( اللغة اليونانية الكلاسيكية الحديثة) التي أبدلت بـ "الديموطيقية" (اللغة اليونانية الشفوية) (الفصل الأول، ص 35) وهي تنعدم بالمقارنة مع اللغة العربية الفصحى (اللغة القرآنية) واللغة المصرية الشفوية التي من الأدعى دراسة تطور الأخيرة عن أكثر من لغة مصرية (الفرعونية والقبطية ولهجاتها) والاندماجات اللغوية بينها وبين اللغات الحامية والسامية والأوروبية.
وتكرس هذه "الحيرة البحثية" حتى حين تعرض لما أقرته الدساتير المصرية في القرن العشرين بتواريخها المعروفة (1923 و1956 و1971 و1980) بأن "الإسلام هو الدين الرسمي للدولة واللغة العربية هي لغتها الرسمية" (الفصل السادس، ص 250) دون أن تحاول قراءة الخريطة اللغوية في أقاليم مصر (العربية السيناوية في شرقها، والأمازيغية في غربها، والنوبية في جنوبها، والقبطية – المصرية في وسطها وشمالها).
وإذا أخذت في حسبانها النضال التحرري العربي والتطلع نحو الوحدة العربية ضد الاستعمار الغربي (الفصل السادس، ص 249) ما دفع إلى الواجهة اعتبار "اللغة العربية الفصحى" هي لغة الوحدة العربية التي أدعت إلى الالتباس الخطير بين اللغة العربية والدين الإسلامي برغم أنها مندهشة من جواب محمود أمين العالم بأنه لم تستطع الوحدة العربية والدين الإسلامي من تطوير "اللغة العربية الفصحى" بل من طورها هم العرب المسيحيون الذين طوعوها عبر الصحافة والأدب في القرن التاسع عشر والعشرين (الفصل الخامس، ص 225).
وقد تفاجأت بفشل "مسألة التعريب اللغوي" حيث فرضت بعض المصطلحات نفسها من لغات أجنبية في مجالات التقنية الاتصالية والأدوات المنزلية ووسائل النقل والمواصلات (الفصل الرابع، ص 183). وغاب عن الباحثة حائري التي اتخذت من إفشال تجربة مجلة "ابن عروس" لمحمد بغدادي ( مارس ومايو ويوليو 1993) في (الفصل الخامس، ص 219)، وجبهة العداء للأدب باللغة المصرية عند شعراء مثل صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي بسبب الانتماء الإيديولوجي اليساري (الفصل الخامس، ص 223) بأنه هناك قوة فاعلة ثقافية مستمرة وهي متوفرة عبر السينما والإذاعة والتلفزيون التي تكرس من الثقافة المصرية الشفوية أو العامية المصرية – على حد تعبيرها - في الأفلام والمسرحيات والأغاني والكاريكاتير والبرامج التفلزيونية الحوارية والجماهيرية.
وقبل هذا فات الباحثة أنه بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين واكب تلك الثقافة المصرية الشفوية التي تعد مرجعياتها حاضرة في الموال الشعبي، والمسرح الشعبي (خيال الظل) وفن الأراجوز، والسيرة الشعبية، والغناء الشعبي (بمختلف تنويعاته الريفية والبدوية والساحلية) صحافة متخصصة.
وقد استطاعت هذه الصحافة – صحافة المجلات المتخصصة في الأدب الشفوي أو العامي - التكريس لهذه الثقافة موسعة من مجالها الإبداعي في الأزجال والمسرحية والمذكرات والنكت نحو مقالات النقد الاجتماعي والسياسي في أكثر من مطبوعة: مجلة أبو نظارة زرقاء (1877 -1884) ليعقوب صنوع حيث منعت وأصدرها بأكثر من اسم لاحقاً في القاهرة وباريس، ومجلة المسامير(1910) للسيد عارف، والسيف (1911) لحسين علي، والكشكول (1921) لسليمان فوزي، وأبو قردان (1924) لمحمود رمزي نظيم، والبغبغان (1924)لمحمود حسني، وألف صنف(1925) لبديع خيري، وأبو شادوف (1926) لمحمد شرف، وابن البلد (1929) للسيد بيومي سلامة.
وفي ذات الفترة ظهرت كتابات من الأدب المصري الشفوي نشرت متوالية مثل: مذكرات فتوة (1927) للمعلم يوسف أبو حجاج، ومذكرات عربجي (1927) للأسطى حنفي، ومذكرات نشال (1927)، ومذكرات وصيفة مصرية (1927) لزينب محمد، ومذكرات خالتي أم سيد (1927) لأحمد عبد الحميد، والحاج درويش وأم إسماعيل (1936) لحسين شفيق المصري.
وأعود لأقول بأنه هناك مرحلة - من مراحل الأدب العربي - وهي مرحلة الآداب الشفوية في الأقاليم العربية حيث ابتكرت الكثير من القوالب الأدبية والأنماط الإبداعية والأشكال التعبيرية (أي: الأجناس الأدبية والفنية) خلال القرون المتتابعة منذ أن دخلت شعوب آسيا الأقاليم العربية، وهي المغول (1258-1260)، والمماليك (1250-1517)، والعثمانية (1566-1916) حيث استخدمت اللغة في مستوياتها الثلاثة(لغة الكتابة واللغة المولدة ولغة العامة على رأي الجاحظ) منقحة عن بعضها في مزيج جديد وضعت فيه الأزجال (الملحون في تونس والحميني في اليمن والنبطي في الجزيرة العربية) والسيرة الشعبية وخيال الظل وفن الأراجوز.
تحولت اللغة هنا إلى وسيلة دفاع ومقاومة بعد أن استحكم باللغة العربية الفصحى الأعاجم حيث أسلموا فكانت خطب الجمع والمراسلات الرسمية بها فتملكوها وهو ما دفع – برأيي - الشعوب العربية إلى أن تستخدم لغاتها المحلية التي تطورت مع ابتكار وسائل وأنماط وقوالب في التعبير والإبداع الأدبي والفني رسخت به من هوياتها المتعددة حيث كل منطقة ترسبت بها مكونات حضارية مختلفة.
والأمر الذي لا يمكنم تجاهله في أي درس لغوي مقارن أن الوضع اللغوي العربي ليس عربياً تاماً، ولا زال قائماً حتى الآن حيث نرى أعراق، غير العربية والمستعربة (المولدة أو الخلاسية)، في العراق (أكراد، تركمان، آشور)، والبحرين (تركمان وفرس وهنود)، والأردن (شركس والشيشان)، واليمن (أحباش ولحوج وأفارقة)، ومصر (أقباط والنوبة واليونان ...)، وسوريا ولبنان (السريان والأرمن)، والجزائر والمغرب (أفارقة وأمازيغ)، وهي تشكل حالات انصهار وإدماج أو انغلاق وتكتل أقلوي.
وحين تضاد الباحثة، وتلمح إلى "الانفصام الثقافي"، في الحياة الاجتماعية بين المصري المسلم وإلزامية تعلم وأداء أركان الإسلام باللغة القرآنية وبين متطلبات الحياة سواء المهنة والحياة العامة التي تجعل من اللغة الفصحى لغة المدارس بينما اللغة الشفوية باعتراف أحد الأشخاص - تحت الدراسة - هي "لغة الحياة" أي أداة التواصل الاجتماعي اليومي في العمل والحياة العامة (الفصل الثاني، ص: 83)، وترى أن مهنة المصحح أو المحرر على أنها مهنة ذكورية حسب مشاهدتها هي عامل رقابي لغوي حيث تتندر بمسمى "الإخوان النحويين" (الفصل الثالث، ص 108) باعتبارهم متنطعين لغويين يشددون على حسن اللغة في تركيبتها وصرفها وإعرابها (الفصل الثاني، ص 89) غير أنها في فصل آخر ترى أن هناك دوراً يلمح إليه المتحدثين والمتحدثات إليها بأن الرقابة اللغوية تخفي رقابة سياسية في الأصل (الفصل الخامس، ص221).
وإذا ما طرحت إمكانية إحلال اللغة المصرية الشفوية لغة تحدث وكتابة (الفصل السادس، 254) باعتبارها تتوازى مع لغات عربية شفوية متعددة في الجزيرة العربية والعراق والشام وشمال أفريقيا فإنها تتناسى عن طرح أسئلة مهمة إزاء أن التناقض بين لغة النص القرآني المتصلة بها اللغة العربية الفصحى المعاصرة، وهي التي تراها غامضة، وبين اللغة المصرية الشفوية أو اللهجة المصرية العامية من حيث: الاختلاف في حقوق الملكية، واعتباطية الرموز، ومسألة الأصل، والقابلية للترجمة (الفصل السادس، 246).
ولكن الأسئلة لا بد أن تعيد النظر في ما يخص هذه اللغة القرآنية الفصحى، وهي لغة دينية بالدرجة الأولى أنتجتها جماعة حجازية – قرشية، فلا تستحق أن تواجه بخطاب "عقدة الصغار" الذي أبداه الأديب عثمان صبري في مقاله المكتوب عام 1967 "العربية الفصحى مش لغتنا علا [هكذا] شان نقدر نتصرف فيها" (الفصل السادس، ص 240)، وهي أسئلة تحمل مشروعيتها عن تاريخ العرب وثقافتهم( لغتهم وكتابتهم)، ومفهوم العروبة كأمة بين عروبات متابينة (العاربة والمستعربة أو اليمنية والحجازية والنجدية)، وجذور معجم النص القرآني الغامضة (السريانية والقبطية والأثيوبية واليمنية)، وهي التي تثيرها مؤلفات جادة كسرت الثابت العلمي بما يتعدى أبواب اللغة العربية في الدخيل والمعرب حين وضع كتاب "التوراة جاءت من جزيرة العرب" (1985) لكمال الصليبي أساساً جغرافياً لهذا النص بأحداثه ومساره التاريخي والاجتماعي والذي توسّع في رد أصل هذا النص إلى واحدة من اللغات العربية المنسية (وهي اليمنية) الباحث فاضل الربيعي في عمله الضخم "فلسطين المتخيلة: أرض التوراة في اليمن القديم" (2008)، وجاء كتاب "قراءة آرامية -سريانية للقرآن" (2002) كريستوف لوكسنبرغ وما تبعه من أبحاث مؤتمر "نحو قراءة جديدة للقرآن؟" (2005) التي اكتشفت مزايا هضم الثقافات السابقة من سريانية وقبطية وأثيوبية حيث صدرت أبحاثه في كتاب" القرآن في محيطه التاريخي" (2008) حرره جبرائيل سعيد رينولدز.
وبرغم أن الباحثة اعتمدت على كتاب "تاريخ الدعوة للعامية وآثارها في مصر"(1964) لنفوسة سعيد، ومن ملاحظتي أنها لم تقرأه كاملاً حين تساءلت ولم تجد، والكتاب أشار وأورد ترجمة نصوص الإنجيل إلى اللغة المصرية الشفوية (الفصل الثاني، 104)، وهي المعروفة بعنوان شهير "الخبر الطيب بتاع السيد المسيح" (1926)التي وضعها ولكوكس لنصوص من العهد القديم والجديد (إنجيل مرقص وإنجيل متى وسفر التكوين وسفر المزامير وأعمال الرسل) وقد طبعت هذه النصوص منفصلة بين عامي(1940-1949) (سعيد، 1964، ص 61)، وهو ما كان يساعدها في حسم تلك الجدليات السطحية التي وضعتها في كتابها من حيث أن اللغة تتحكم فيها بشكل أعمق "التحولات التي تتم في الممارسات الثقافية والهوية الاجتماعية والنظام السياسي" كما يقول شلدون بولوك حين رأى أن اللغات المحلية في الهند تتطور بمعزل عن اللغة السنسكريتية المحتكرة.
إذن، فإن النظام السياسي والبناء الإيديولوجي من يتحكم في تخير مستوى لغوي للكتابة بينما لا يمكن أن يستطيع هذا النظام السياسي والديني من تطوير لغة هو نفسه يحتكرها بل يدفعها إلى قفص في متحف، أو تعد العربية الفصحى "لغة ميتة" كما يعلق الناشر لقمان سليم (الفصل الخامس، 211) فتأتي لغات عربية شفوية، ضمن سياق نظرية النشوء والارتقاء، لتحتل مكانها لغة بديلة متكاملة المقومات والعناصر تستقل وتتميز عن الفصحى بأن لها رموزها وتراكبيها ومرونتها (الفصل الخامس، ص 217) كما قيل في مقالة نشرتها مجلة"ابن عروس" (العدد الثاني، 1993) الموؤودة، وتعيش في اللسان تحت طائلة الاحتمال أن تكون لغة المستقبل !
[الكاتب محمد ربيع]
وفي مطالعة خلال الخمس سنوات الأخيرة سنرى أن الإعلام الألكتروني خدم الكتابة باللغة العربية الشفوية ذات السمة الأدبية عند كل الشعوب حيث أتاحت الوسائل التقنية الجديدة هذا غير أن جيلاً جديداً في مصر بدأ من المدونات واستمر يقدم الأدب في العصر الألكتروني سواء عبر روايات أو قصص قصيرة أو مقالات ساخرة باللغة المصرية الشفوية، ولنا منها نماذج جادة مثل الروائي – الذي رحل شاباً - محمد ربيع (1975-2008) ووثقت رواياته مدونته "موسيقى تصويرية" (1998)، وعموم الليالي التي (2000)، والبابا(2001)، ومؤامرة على السيدة صنع الله (2003)، وناس أسمهان عزيز السريين (2007)، والكاتب الساخر عمر طاهر في أكثر من كتاب أميزها "شكلها باظت " (2005)، و"ابن عبد الحميد الترزي: ألبوم سينمائي ساخر" (2008)، والقاصة غادة عبد العال صاحبة قصص"عايزة أتجوز" (2010) تحولت إلى مسلسل لاحقاً.
وهذا الأدب يوظف الطاقة التعبيرية من اللغة المصرية الشفوية ويعيد تركيبها وترميزها بما تتطلبه إبداعاتهم وإبداعاتهن. إن التخير والتواضع اللغوي تحت طائلة حياة الناس وواقعهم لكن سيحسمه ثقافياً المبدعون والمبدعات في المستقبل.